مـا الجميلُ بـ هيَبا؟

رُكونه، هدوئه، زُهده -المُبالغُ فيه ربما- ، تفانيه، إخلاصه، وحدته التي اختار، حيرةُ عقله، ميلُ قلبِه، تخلّيه وترفعه وارتفاعُه، كلها أمورٌ تجعلهُ ينفرُ من الحشدِ فيلحقُ الحشدُ به راغبًا في التطلِع إليه والتطبعُ بغلاءه عن السلعِ ومعرفةِ ما به.

كائنٌ بصمت، وكونه ذلك مُلفت، يكتبُ الشعر، يحترفُ الطب، ذكيّ، عاشق، مُحيّر لكلِ نفسٍ لا تعرفه، وجذّابٌ هكذا.

ما قد يكونُ عامًا من الحديثِ عنه أنه بطلٌ لروايةٍ، يحدّثُ الشيطانَ/ عزازيل كثيرًا، وأنه راهبٌ مصريٌ رحلَ عن وطنه وصنعَ له من كلِ بلدٍ زارها وطن؛ لأنه لا خيارَ لديه سوى ذلك. ألِفَ عددًا قليلاً من الناس رغمَ أنه في ترحاله قابلَ الكثيرين، أحبَ امرأتين فقط، أولهما مُشتعلة ينطقُ صوتٌ آخر مع صوتها حينما تتحدّث، قائلاً أنها لا تُبالي لشيء سوى آنٍ تعيشـُه ولحظةٍ تمرُ الآن، وثانيهُما خانعة، لها صوتٌ جميلٌ وشَعرٌ جميلٌ ووجهٌ أجمَل، تركت زمنُها يتركُ ما تركَ أعلى نفسِها فصارت نفسًا ثقيلة لا يوحي بها ما على وجهها من صِغـَر.

عانى كثيرًا في صغرِه وفي شبابه فانغلقَ على ذاته ليُبقي على ما فيها من حُسن؛ فصارَ بذلكَ غرًا لا يحتملُ القبح، ولا يعرفُ في بعضِ الأوقاتِ بمَ يردُ على مكرٍ يقابله، وأصابني أنا بخيبةٍ منه هُنا!

لا أعرف بمَ أصفه بغيرِ ذلك، بغيرِ كونه مجاهدًا في سبيلِ نفسهِ؛ بتخلّيه عن راحتها وعن استقرار رأيه وثبات عقله وسماحِه بتأرجح قلبه، إلى الحقِ الذي لا يجيء، والذي بكونه لا يجيءُ فعلاً، فلم يترك مجالاً للكاتبِ سوى أن يجعلها نهايةً مفتوحة- أصابني بخيبةٍ أخرى.

تقولُ أمي أنها فتحت هذه الرواية -وهو أمرٌ لا يحدُثُ في الغالبِ أن تناقشني أمّي رواية- فجذبتها هذه المُقدمة:

“يضمُّ هذا الكتابُ الذى أَوْصيتُ أن يُنشر بعد وفاتي، ترجمةً أمينةً قَدْرَ المستطاع لمجموعة اللفائف التى اكتُشفتْ قبل عشر سنوات بالخرائب الأثرية الواقعة إلى جهة الشمال الغربي من مدينة حلب السورية، وقد وصلتنا بما عليها من كتابات سُريانية قديمة في حالةٍ جيدةٍ، نادراً ما نجد مثيلاً لها، مع أنها كُتبت في النصف الأول من القرن الخامس الميلادى، محفوظة في صندوق خشبى، محكم الإغلاق، أودع فيه الراهبُ المصرىُّ الأصل هيبا ما دوَّنه من سيرةٍ عجيبة وتأريخٍ غير مقصود لوقائع حياته القَلِقة، وتقلُّبات زمانه المضطرب”

أنا جذبتني هذه البداية:

لكلِ امرئٍ شيطانه، حتّى أنا، غيرَ أن الله أعانني عليه فأسلَم..

في مكانٍ بعيدٍ عن هيبَا في الكتابِ أحببتُ قصّةَ هيباتيا التي اتخذَ هيبا نصفَ اسمها اسمًا له، ولم أعرف له سواه للآن، ولكن لن أخوضَ بها -بالقصة- لأنَ بي من الخوضِ والحيرةِ ما يكفي. أحببتُ أيضًا ما قابلني فعلّمتُ عنه بعدما كنتُ على جهالةٍ به، وأحببتُ السردَ واللغة رغمَ أنها كانت في مواضعٍ ما لفظية إلى حدٍ يجعلُها غيرَ محسوسة، وأحببتُ الوصفَ والمناجيات، والجوَ الذي أحاطَ القصّة؛ كنتُ وكأنني أعيشه.

لا أدري من خلف عودتي للتحدثِ عن الكتاب سببًا إلا أنني قلتُ أنني سأفعل، ولا أعلمُ لمَ قيمته بأربعِ نجماتٍ من خمسٍ كما بالصورة، ولا أعلمُ ما أشعرُ حياله، ولا أدري إن كنتُ سأعاودُ قراءته في مرةٍ ما، قريبةٍ كانت أو بعيدة. أعلمُ أنَ الكثيرينَ أعجبوا به وربما يعجبُ أكثرَ بعد : )

أنهي حديثي هُنا؛ لا يروقُ لي التحدثُ في مادياتٍ وحقائق ومؤرخَات. كما أنه طيبٌ ألا أحرقَ الكتابَ أمام من نوى القراءةَ مُسبقًا.

وسعدتُ بكَ وأهلاً

ذاتَ صلة: هُنا

الأوسمة:

Have a say :